الأربعاء، 8 سبتمبر 2010

هكذا .. يرحل الأخيار



لم أغضب يوماً، لم أشتم، لم أبصق في وجه أحدهم ، ومع ذلك مُتُّ بأمراض القلب !
لم أشعل سيجارة واحدة في حياتي .. هه وبالتأكيد لم أعاقر كأساً ، ومع ذلك مُتُّ بأمراض القلب !
لم تدمي أقدامي من المشي في مظاهرة ، لم اشتم الحاكم، لم أدخل سجناً .. ومع ذلك مُتُّ بأمراض القلب !
لم أحب إلا إمرأة واحدة في حياتي ، لم أنجب إلا أربعة أبناء ، لم أؤذي جيراني .. ومع ذلك مُتُّ بأمراض القلب !
اللهم لا اعتراض .. ولكني أكفر الآن بكل توصيات الصحة الغبية
بل وصلني إنهم يعزونني ويرددون : جاء بلسماً وذهب بلسماً

كان رحيلي بلسماً


25 يوماً وأنا أحضرهم لرحيلي ، وقبلها سنوات من الآلآلم ، لم أمت دهساً على الأسفلت ، لم أمت في فراشي على غفلة من زوجتي النائمة بقربي، لم أمت في مسجد الحي وأنا ساجد، لم أمت وأنا مغطى بدمي في غرفة العمليات، لم يكن موتي حكايةً تُذكر لكي لا أؤذيهم.!


بل احتضرت خمسة وعشرين يوماً مباركة و طاهرة حيث أبواب الجنة تُفتح فيها كل مساء وتُغلق أبواب جهنم، وهم هناك يبتهلون و يصلون و يتصدقون ويذبحون الذبائح طرداً لآلآمي .. وأنا أُصارع الأوكسجين وهو يخرج من صدري ولايعود، و رغم هذا الصراع كنت اسألهم عن حالهم عندما يزورونني و أتفقد أخبار صغارهم .. رغم انف أنفاسي الثقيلة .. الثقيلة جداً.


وفي الليلة الخامسة والعشرون سمعت إن فتاة الحي أديم .. حلِمتْ كأن الليلة ليلة القدر ، اخذتها غفوة بعد صلاة العشاء لتستيقظ على إخوتها تهذي مما رأته وتكاد تبكي، يقولون إنها رأت القمر مشعاً كما لم تره من قبل وكانت حوله هالة من النور تشبه الغيم الأبيض.. الأبيض كالثلج كالحلم .. ذاك البياض الذي من شدته تخال إنه ممزوج بالزرقة.!
الفتاة الطيبة بشرت الأحباب بالرؤية لكي يرتبوا الأماني ويبعثونها للسماء ..! ولكن ما أن طلع الصُبح حتى غابت شمس " آخر الرجال الطيبين " عن سماء الدوحة ! وما أن أنقضى الليل حتى غشى" اليُتم " حياة صغاري.


آآه يا أديم الصغيرة .. أو هذا أخر عهدي بك يا صديقة بُنيتي ! أعرف إنكِ الآن تُفسرين رؤياكِ لكي تهدأي من روعك : هي الملائكة .. نعم الملائكة البيضاء .. تلك التي رأيت نورها ليلة الخامس والعشرين .. هي ملائكة الموت التي هبطت لتأخذ روحه حيث يجدر بها الخلود !


سأفتقدكم .. سأفتقد ذاكرتي المُزينة بأصوات خطواتكم و أنا أجلس في فية البيت و أنتم تتراكضون إلى شجرة السدرة لتتخذو من اغصانها بيوت، سأفتقد تسلقكم إلى أشجار اللوز و الجواف ! و بالتأكيد لن أسمع بعد الآن صوت محمد المنتشي وهو يقرأ لي مقالته التحليلية لفوز الغرافة بكأس الأمير، ولن اشم رائحة العود يوم عرسه، و سأشتاق .. لطلة توته بفانيلة البرشا الجديدة، ولرائحة شعر حفديتي الجميلة ولأمها الحبيبة وهي تقرأ علي احد أمهات الكتب، الصوت العذب لإمام المسجد عبدالرحمن الشاب الغزاوي، قطرات العرق حين خطاوي العصرية تأخذني لبيت شقيقي، دمعات شقيقتي الخمسينية كلما تذاكرنا قصة موت أُمنا المفاجئ ويتمنا الذي كان يروونه كأحد المآسي ..


الآن ابتسم .. ربما التقي أمي ! فأنا أول الواصلين إليها من بين أشقائي، أتُرى تشفع لي لحيتي الطويلة والتي ربيتها إحساناً و سنةً لمدة ثلاثين عاما ؟! أتُرى يشفع لي خروجي مع المرشدين في سنوات قوتي ؟! أتُرى تشفع لي الفيلا الكبيرة التي بينتها و رفيقة العمر كما في أحلامنا ثم وهبتها لأحد الأقارب لحاجته ؟! أتُرى بياض وجهي وسماحة ابتسامتي ونطقي للشهادة .. قبل آخر مرة تلتقي فيها جفوني .. يشفعون لي ؟!

أريد أن أرى أمي و أبي و صديقي الذي ودعته فجر السابعة والعشرين من رمضان العام الماضي .. آ

آخ ياصديقي الكريم .. ها أنا بعد عام واحد فقط ! أسرق فرحة العيد من فجر الدوحة و أخبأه في أعينهم الدامعة وقلوبهم الوجلة من لوعة الفراق ، كما فعلتها أنت قبلي.. أتعرف قبل رحيلي بيومين رأى أحد أبنائك فيما يرى النائم إنك تخضب لحيتك بالحناء و تتزين .. وكأنك تستعد لاستقبال أحدهم .!


شكراً لجودك فوق الأرض أو تحت الأرض ، تحت الأرض حيث الدود الآن يقتص من جسدي السنوات التي ارهقته خلالها، لستُ نادماً على خسارة هذا الطين .. فقد رأتني بداية الشهر أدخل على حبيبتي بأبهى طلة الثلاثين !

يالله .. ألم يحكوا لكم إنني " بلسماً " حتى في رحيلي .. ! فهاهي حتى الرؤى و الأحلام تتواطى مع فكرة رحيلي و تنهل عليهم لتهيأهم لرحيلي إلى تحت الأرض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق